سورة البقرة - تفسير تفسير القشيري

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


أراد المنافقون أن يجمعوا بين عِشْرة الكفار وصحبة المسلمين، فإِذا برزوا للمسلمين قالوا نحن معكم، وإذا خَلَوْا بأضرابهم من الكفار أظهروا الإخلاص لهم، فأرادوا الجمع بين الأمْرَيْن فَنُفُوا عنهما. قال الله تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاَءِ} [النساء: 143] وكذلك من رام أن يجمع بين طريق الإرادة وما عليه أهل العادة لا يلتئم ذلك، فالضدان لا يجتمعان، والمُكَاتَبُ عَبدٌ ما بَقِيَ عليه درهم، وإذا ادلهم الليل من هاهنا أدبر النهار من هاهنا، ومن كان له في كل ناحية خليط، وفي زاوية من قلبه ربيط كان نهباً للطوارق، ينتابه كل قوم، وينزل في قلبه كل (...)، فقلبه أبداً خراب، لا يهنأ بعيش، ولا له في التحقيق رزق من قلبه، قال قائلهم:
أراك بقية من قوم موسى *** فهم لا يصبرون على طعام
ولما قال المنافقون: {إنما نحن مستهزئون} قال الله تعالى: {الله يستهزئ بهم} أي يجازيهم على استهزائهم، كذلك لما ألقى القوم أزِمَّتهم في أيدي الشهوات استهوتهم في أودية التفرقة، فلم يستقر لهم قدم على مقام فتطوحوا في متاهات الغيبة، وكما يمد المنافقين في طغيانهم يعمهون يطيل مدة هؤلاء في مخايل الأمل فيكونون عند اقتراب آجالهم أطول ما كانوا أملاً، وأسوأ ما كانوا عملاً، ذلك جزاء ما عملوا، ووبال ما صنعوا. وتحسين أعمالهم القبيحة في أعينهم من أشد العقوبات لهم، ورضاؤهم بما فيه من الفترة أَجَلُّ مصيبة لهم.


الإشارة منها أن من بقي عن الحقوق بالبقاء في أوطان الحظوظ خسرت صفقتهم، وما ربحت تجارتهم. والذي رضي بالدنيا عن العقبى لفي خسران ظاهر.
ومن آثر الدنيا أو العقبى على الحق تعالى لأشد خسرانا.
وإذا كان المصاب بفوات النعيم مغبونا فالذي مُنِيَ بالبعاد عن المناجاة وانحاز بقلبه عن مولاه، وبقي في أسْرِ الشهوات، لا إلى قلبه رسول، ولا لروحه وصول، ولا معه مناجاة، ولا عليه إقبال، ولا في سرّه شهود- فهذا هو الْمُصَابُ والْمُمْتَحَن.
وإن من فاته وقت فقد فاته ربه، فالأوقات لا خَلَفَ عنها ولا بَدَلَ منها، ولقد قال بعضهم:
كنتَ السوادَ لمقلتي *** فبكى عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت *** فعليك كنت أحاذر


هذا مثل ضربه الله سبحانه للمنافقين بمن استوقد ناراً في ابتداء ليلته ثم أطفئت النيران فبقي صاحبها في الظلمة، كذلك المنافق ظهر عليه شيء من العوافي في الدنيا بظاهره ثم امْتُحِنُوا في الآخرة بأليم العقوبة، أو لاح شيء من إقرارهم ثم بقوا في ظلمة إنكارهم.
والإشارة من هذه الآية لمن له بداية جميلة؛ يسلك طريق الإرادة، ويتعنَّى مدة، ويقاسي بعد الشدّة شدة، ثم يرجع إلى الدنيا قبل الوصول إلى الحقيقة، ويعود إلى ما كان فيه من ظلمات البشرية. أورق عُودُه ثم لم يثمر، وأزهر غصنه ثم لم يدركه، وعجَّل كسوف الفترة على أقمار حضوره، وردّته يد القهر بعد ما أحضره لسان اللطف، فوطن عن القرب قلبه، وغلّ من الطالبين نفسه، فكان كما قيل:
حين قرّ الهوى وقلنا سُرِرْنا *** وَحِسْبناً من الفراق أمِنَّا
بعث البَيْن رُسْل في خفاءٍ *** فأبادوا من شملنا ما جمعنا
وكذلك تحصل الإشارة في هذه الآية لمن له أدنى شيء من المعاني فيظهر الدعاوى فوق ما هو به، فإِذا انقطع عنه (...) ماله من أحواله بقي في ظلمة دعاواه.
وكذلك الذي يركن إلى حطام الدنيا وزخرفها، فإِذا استتبت الأحوال وساعد الأمل وارتفع المراد- برز عليه الموت من مكامن المكر فيترك الكُل ويحمل الكَلَّ.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8